شرابُ العظماء!

لا أشك أنَّ كل من قرأ عنوان المقال قال في نفسِه -حتى قبل التنبُّه للصورة-: الشاهي (الشاي) ورب الكعبة! والحقيقة أن واقعية هذا الشك لا تهمني كثيرًا ما دامت الحَوْباء قد اطمأنت له. قبل الشروع في الموضوع لابد من الاعتراف والتوثيق لكل مَن يهمُّه الأمر -والذي لا يهمه أيضًا-: كُتب هذا المقال تحت تأثير الشاهي وسطوة النعناع.

الشاي شراب لا يشك عاقل سلِم ذوقه من الفساد في لذاذته، وسمو قدره، وعظيم منزلته. له مكانة في قلوبِ الفقراء والأغنياء على السواء، فهو لم يتضخَّم مع تضخُّم عالمنا المادي كما فعلت تلك السوداء ربيبة الرأسمالية التي لا يتبجَّح -وحبذا شدّ الجيم جيدًا حتى تنتفخ المفردة المعبِّرة عن واقع الحال- بشربها إلا كل مدعٍ للمعرفةِ، أو متفاخر بالظواهر، أو مهووس بآراء الآخرين. هلّا تأمل مُنصف وأخبرنا: ما هو المشروب الأكثر استعراضاً اليوم؟ نعم؛ إنها هي وليس سواها. الشاهي شراب البُسطاء الذين صفا مزاجهم ولم تلوِّثه المدَنية؛ يختارونه بمزاج، ويصنعونه بمزاج، ويشربونه بمزاج. يفعلون كل هذا تلبية لذائقةٍ شخصية، ولذة نفسية، لم تدفعهم موضة المقاهي وفتنة التباهي.

هنا جذاذات من قراءات متعددة، ونوادر من مصادر متفرِّقة، عن هذا المشروب العظيم؛ تاريخه، ومكان ظهوره الأول، وحول فوائده، وطريقة شُربه، وما قيل في حقِّه والثناء عليه. جُمِعت مادة المقال في ليالٍ كان الشاهي فيها أُنسي وأنيسي الوحيد وطارفي والتليد. وإنَّ له لتأثير لو علِم به الجهلاء بقدره لالتهموا نباته التهاما قبل طبخه! ولا غرو أن وُصِف الشاي بـ«الغادة الحَسناء»، فإنه يفعل ما تفعله من خَلقِ الطُّمأنينة، وبث النشاط، وتنقية المزاج، وهناءة البال، ونحر كل هم وضيق على مذبح السعادة.

جاء في كتاب «أدبيات الشاي والقهوة والدخان» لمحمد طاهر الكردي: ”أول ما عُرف الشاي في بلاد الصين، ثم انتقل منها إلى اليابان، ثم انتقل إلى الهند ثم إلى البلادِ الأوروبية -وقرأتُ أن أول من أدخله إلى أوروبا هم الهولنديون- ثم انتشر استعماله في جميع الممالك والأقطار، ويقال أنَّ الأمة الإنجليزية أكثر الأمم الأوروبية شرباً للشاي وكان لا يشربه إلا الخاصة، بل إن ملك إنجلترا الملك جورج الخامس كان يعمل الشاي لنفسه بيده“. ويذكر الكردي في كتابهِ أنَّ أكثر وأشهر الأمم عناية بشرب الشاي ونظافة آلاته وأدواته هم أهل إيران والأتراك وأهل الحجاز وأهل العراق وأهل المغرب ويُسمَّى الشاي عندهم بالأتاي، وغالب شربهم الشاي الأخضر مع النعناع، ويسمى عند أهل الحجاز بالشاهي وهم مولعون به ويكثرون من شربه على الدوام.

وفي مستهلِّ كتاب «الشاي الأخضر» للحسيني، يقول: ”نحن لا نعرف على وجه التحديد متى بدأ الناس يعرفون نبات الشاي ويستخدمونه كشراب. فذلك يرتبط في الحقيقةِ بحكايات واعتقادات تميل للمبالغات والوهم ولا تستند إلى معلوماتٍ مؤكدة.

لكننا نعرف بكل تأكيد أنَّ نبات الشاي عُرف لأول مرة في جنوب شرق آسيا وخاصة في الصين. ولا تزال هذه المنطقة من العالمِ حتى الآن أغنى منطقة بنبات الشاي، وأكثرها اهتماماً بزراعته، وأكثرها اعتيادًا على شربه.

أما أبرز شخصية ارتبط اسمها بنبات الشاي فهو الصيني لو يو Lu Yu والذي لُقِّب برائد زراعة الشاي أو ملك الشاي. حيث يُعتبر أول من ذكر الشاي في كتاب، وهو كتاب Ch’a Ching وهذا الاسم الصيني يعني: كتاب الشاي، ويرجع تاريخ هذا الكتاب إلى ٧٨٠ قبل الميلاد.

ويتناول هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثة أجزاء، كل شيء عن زراعةِ الشاي، وإعداده، وشربه. ولذا فإنَّ لو يو يحتل مكانة بارزة ورفيعة في التاريخِ الصيني حتى الآن“.

وننقل عن الباحثين السبتي والخصاصي في كتابهما «من الشاي إلى الأتاي – العادة والتاريخ» أنَّ الشاي الصيني وصل إلى أوروبا في القرنِ السابع عشر، أما وصوله إلى المغربِ العربي فكان في مطلعِ القرن الثامن عشر في عهد السلطان المولى إسماعيل حيث استُعمل أول الأمر كدواء.

ولأنني مولَع بالاستطراد أقول: وإسماعيل هذا يُعتبر من أعظمِ ذوي الآثار ليس فقط بين ملوك المغرب بل بين ملوك الإسلام، بل -كما قال شكيب أرسلان- بين ملوك العالَم بأسرهِ. وهو جد العائلة الشريفة المالكة إلى اليوم في المغرب، فهو الجد العاشر لمحمد السادس. كان ملكه بعد الثمانين وألف للهجرة، وهو الذي قلع الإسبانيول والبرتغال من سواحل المغرب، وقلع الإنكليز من طنجة، وحكم ٦٤ سنة! وهو الذي ألَّفَ الجيش الدائم المُسمَّى بالبخاري، وكان مركبا من مئة ألف من العبيد السود. لطول حكمه وحياته كان جهلة الأعراب يَعتقدون أنه لا يموت، وكان الذين يَستبطئون موته يلقبونه بالحي الدائم! قال صاحب «الاستقصا» : لم يبق لأهل الدعارة والفساد محل يأوون إليه، ويعتصمون به، ولم تقلّهم أرض، ولا أظلَّتهم سماء سائر أيامه. وكان مُغرَمًا بالبناء، متذكراً قول القائل:

‏همُ الملوك إذا أرادوا ذِكرها

‏من بعدهم فبألسُن البُنيانِ

‏إنَّ البناء إذا تعاظم شأنهُ

‏أضحى يدل على عظيم الشانِ

فرض على المدن عدداً معلوماً من البنائين، والنجارين، والحدادين، إلى غير ذلك. وكانت حاضرة ملكه لا تخلو من ٢٠ ألف أسير من الإفرنج. وكانت الجنان تحيط بقصوره، وبنى مسجداً عظيماً هو الجامع الأخضر. أما إصطبله فلا أظن أنه وجد مثله بالعالم في طوله وعرضه، يربط فيه ١٢ ألف فرس! وهذه المعلومات عن السلطان مولاي إسماعيل أخذتها عن شكيب أرسلان في كتابه «الارتسامات».

نعتذر لطول الاستطراد، ونعود إلى حديثنا عن الشاي وفوائده، نقرأ في مقدمة كتاب «أكواب الشاي – صورة من الأدب الحضرمي» للشيخ عمر باكثير قوله: ”مؤلف هذا الكتاب من المولعين بشرب الشاي وطباخته، فهو يصطبح به باكرًا ويغتبق به مساءً، ويقول مبالغاً: إذا وُجِدَ الشاي في البيت فهو يكفيني عن المواد الغذائية الأخرى. ويقول فيه أيضاً: إن الشاي ينشِّط الجسم ويقيه من الأمراض والحميات ويقوي الذاكرة ويهضم الطعام“.

وقال القاسمي تـ١٩١٤م في رسالته الشهيرة «رسالة في الشاي والقهوة والدخان ١٣٢٢هـ/١٩٠٤م» بعد أن ذكر اسم الشاي ومادته وانتشاره وصفته وأصنافه وكيفية طبخه: ”اعتبروه مهضّماً للغاية، مقوياً للمعدة، منبهاً يسبب ثوراناً خفيفاً في التصورات بتأثيره على المخِّ ويزيد في القوة الجنونية، ويسبب راحة واطمئنانا“. وذكر أيضاً أن الصينيين يرون أن من خواصه أنه يقوي المعدة والقلب ويزيل أوجاع الرأس. قال بعد ذلك: ”وقرأتُ في بعض المجلات العصرية أن الشاي يطهِّر الدم من مواد مضرّة ويعين على الهضم“.

وللضرورة ومن لوازم الأمانة القول: لا ينبغي أخذ هذه المعلومات كحقائق علمية، لأنني لستُ من أهل العلمِ، ولا أعلم مدى صحتها، وإنما أنقل بقلمٍ يتتبع شوارد اللطائف. وجب التنبيه.

ولأنَّ الشاي أصبح مشروباً رسمياً في المغرب، ولكي تدرك قيمته عندهم اقرأ هذا النص العجيب الوارد في كتاب «من الشاي إلى الأتاي» صـ١٠١ : ”فهذا الشراب اليوم جرى به العمل في عُرف القوم حتى صار يُقدم قرًى للضيف، وربما إن قُدِّم له طعاماً بدونه يعتقد أنه استُهزئ به. ولو قام الإنسان بواجب الضيافة، وأطعم جلساءه كل لون من ألوان الطعام وأنواع الحلاوة، ولم يأتهم بشراب الأتاي، لقالوا قصَّر في جانبنا وأزرى بحقنا، وشتموه ومزّقوا عرضه في المجالس، وصار عندهم أُحدوثة“.

ومن اللطائف ومما يدل على أن الشاي مشروب أهل التقى والصلاح والهداية -والخلاف في هذا يُفسد للود قضية- ما قرأتهُ في كتاب الأعلام للزركلي في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن السقاف العلوي تـ١٣٥٧ھ بأنَّ له مؤلَّف بعنوان «حسن الطائف بتقوى شاربي الشاي بالطائف» (مخطوط).

وعن أثرهِ الاجتماعي وأنه أُنس أهل العِفة والمودة وزين مسامراتهم، نقرأ في آخر مقال للزيات عنه في مجلة الرِّسالة ١٩٣٣م: ”وللشاي في الأُمم المدنية الحديثة أثر اجتماعي كبير، فقد اتخذت منه تلك الأمم وجبة خفيفة، وجبة خفيفة على المعدة وعلى الجيب على السواء، يجتمع عليها أهل الأعمال يتحدثون برهات قصيرة، وأهل المودة يتسامرون ساعات قليلة، ويلتقي عليها الأحباب في برء وعفّة، يتجاذبون أطراف الأحاديث الحلوة، ببطونٍ بالطعام خفيفة، وقلوب بالحبِّ مفعمة ثقيلة“.

وبين الشاي وأهله علاقة عميقة تُدرك بالشعور والوجدان ولا تُفسَّر بالعقل والبرهان، لذلك لا تعجب إذا علمت أن مفكرًا يدعى شو وينفو، كان يعد الشاي ويشربه ست مرات في اليوم، وفي ساعات محددة من الصباح حتى المساء، وكان يحب «غلايته» حبّاً عميقاً، حتى أنه أوصى بدفنها معه عند موته!

ولا بأس الآن أن أعرِّج على ما جاء في كتاب «كيف يحيا الإنسان» للين يوتانج الذي يرى أن الشاي وُجِد ليشربه الناس في هدوء، فيقول: ”وهناك شيء في طبيعة الشاي، يدفعنا إلى عالمٍ من التأمل الهادئ في الحياة. وقد يكون من المفجع أن يتناول الإنسان الشاي وقد أحاط نفسه بالأطفال يبكون ويصرخون حوله، أو بنسوةٍ يتحدثن بأصوات عالية، أو برجال يناقشون القضايا السياسية“. ويرى بأنه يجب أن يكون الجمع الذي يتناول الشاي قليل العدد. وكما قال أحد الكتاب: ”إذا كثر الضيوف، وتحوّل الحفل إلى ضجة صاخبة، يُنزع من جلسة الشاي كل ما فيها من سحر. و[يجب] أن يكون شرب الشاي على انفراد.. أما مع رفيقين فهو أمر مريح، ومع ثلاثة أو أربعة من الرفاق فهو أمر رائع، ومع خمسة أو ستة شيء عادي، أما إذا زاد العدد عن ذلك أصبح الأمر سيئا“.

وهنا أذكر من الأخبار والأحداث العجيبة ما قرأته عن الحملة التي قام بها سير توماس «راسل باشا»، وهو ضابط إنجليزي خدم في الشرطة المصرية في أوائل القرن العشرين. شنَّ هذا الرجل حملة شعواء على الشاي الأسود المنتشر بين الفلاحين في مصر، فيقول كاتب مقال مجهول في المجلة الجديدة: ”وحملته على الشاي الأسود بين الفلاحين لا تقل عن حملته على المخدرات. فإن الشاي يُشرب بكثرة في البحيرة والفيوم ومعظم مديريات الصعيد، ويُغلى مرات ويضاف إليه كثير من السكر! فتتسرب سمومه إلى الجسم فتضعف الشهوة الجنسية وتنتهي بإحداث العُقم بين الرجال والنساء!“.

وهذا ذكرني بما قرأته في كتاب «وحي بغداد» للدكاترة زكي مبارك، بعد أن تحدَّث عن البغداديين وأنهم يتحفظون في شرب الخمر، ولكنهم يُسرفون في شرب الشاي إلى حد الإدمان، قال: ”ويتفق في أحوال كثيرة أن ينقطع الرجل عن الحديث، فإذا سألت عرفت أنه لم يشرب الشاي منذ ساعتين، وأنه من أجل ذلك «خرمان»“. والشاهد قوله بعد هذا الكلام: ‏”فهم من هذه الناحية يُشبهون الفلاحين في الجيزة الفيحاء، فمِن أهل الجيزة من لا يُدرك ولا يعقل إلا إذا أسعفته بكأسٍ من الشاي الأسود البغيض“.

أما الآن فأود الانتقال إلى مقالٍ ظريف للكاتب العالمي إريك بلير، أعني جورج أورويل، كتبه بدورية «ايفننج ستاندارد» بعنوان «كوب لطيف من الشاي» ذكر فيه إحدى عشرة قاعدة لاختيار الشاي المناسب، وطريقة صنعه، وكيفية شربه. وقد يتعجَّب القارئ بعد قراءة المقال من آراء أورويل، ولكنه ذوقه ومزاجه! مما جاء في المقال بعد أن أكَّد أورويل أنَّ ”الشاي هو أحد الركائز الأساسية للحضارة في هذا البلد“ :

• ”رأيي دائمًا هو أن كوبًا من الشاي المضبوط الثقيل أفضل من عشرين كوباً خفيفًا.. كل عشاق الشاي العارفين لا يتناولونه إلا ثقيلاً، وفي الحقيقةِ أحب شايي أثقل قليلًا كل عام، فكلما زاد عمرك وزادت حكمتك صرت أكثر قدرة على الاستمتاع بالشاي الأثقل“.

• ”لا يجب إضافة السكر للشاي أبدًا.. خبرني بالله عليك، كيف يمكن أن تعتبر نفسك شريبًا حقيقيًا للشاي وأنت تفسد مذاقه بإضافة السكر؟ لماذا لا تضيف الملح أو الفلفل أيضًا فلا يوجد فارق كبير!“. ويتعصَّب أورويل لرأيه قائلاً: ”الشاي يجب أن يكون مرًا، طبيعة الشاي أن يكون مرًا.. إذا قمت بتحلية الشاي، فهو لا يصبح شايًا فأنت يمكنك أن تحصل على نفس المذاق بتناول ماء مغلي محلى بالسكر! .. قد يجيب بعض الناس بأنهم لا يحبون الشاي في حد ذاته، وأنهم يشربونه فقط من أجل الدفء والنشاط، ويحتاجون إلى السكر لإبعاد الطعم. أود أن أقول لهؤلاء المضللين: جربوا شرب الشاي بدون سكر، على سبيل المثال، لمدة أسبوعين، وأعدكم أنكم لن تفسدوا الشاي عن طريق تحليته مرة أخرى“.

وبعد هذه الجولة الطويلة يحلو لي بعد ارتشاف «بيالتي» المنعنعة، أن آخذ بيد القارئ الكريم إلى بستان الأدب لنقطف معاً ما راق وظرُف مما قيل في هذا المشروب الفريد.

ومن جميل وقفتُ عليه ما قالهُ الأديب البيروتي:

أدِم شُرب الأتاي فإنَّ فيها

منافع ليس توجد في سِواها

مآثر تمنح السُّفهاء حلماً

وأرباب الحُلوم عُلاً وجاها

إِذا جليت مَشاربها تَجلّت

على جُلساء حضرتها سَناها

فلا لَغواً ولا تأثيم فيها

ولا ما يَسلب العُقلا نهاها

ولا ما يلحق الإِنسان جهلاً

براتعةِ البهائم في فَلاها

ينال بها السليم نشاط جسمٍ

كما نالَت بها المرضى شِفاها

ويعبق طيبها فينمّ مِسكاً

فينعش روح شاربها شَذاها

وقال الشيخ عبد الجليل المدني في حقِّه:

إذا مجلسٌ للأُنسِ تمَّ نظامه

وما دار فيه كأس شاي مُعنبرُ

لعمري وإن حازَ المسرات ناقصٌ

وما هو في عد المجالسِ يُذكرُ

أما محمد العاقب الشنقيطي فيقول:

أتايٌ هو الشُرب الحلال ارتشافهُ

وحاشاه من أن يُستذمَّ ويُمنعا

مناقبهُ تنبيك فاستفتِ شَربه

ولا سيَّما ما كان منه مُنَعْنعا

(الشرب بالفتح: جمع شارب كصحب وصاحب).

وللشاعر علي أحمد باكثير في روايته «همام»:

لا تَعجبنَّ هُمام تلك حقيقة

كالشمسِ فيها الشاربون سواءُ

ما قيمة الدُّنيا وقيمة أهلها

ما لم يكُن شايٌ ولا ندماءُ!

ومن شعرِ د. يحيى شامي:

أدرها خمرة ليست بخمرِ

وليست بالحِجا والعقل تزري

أدرها من سلافِ الشاي صرفاً

فإنَّ الشاي صهبائي وخمري

إلى أن يقول في قصيدته العذبة:

ترانا والكؤوس مشعشعاتٌ

وطيف الحُب يرعانا ويغري

نعلّ شرابهن بلا حسابٍ

أليس البذل غاية كل حُرِّ

فمثنى أو ثلاثاً أو رباعاً

وأحياناً إلى تسعٍ وعشرِ!

حتى يقول:

وحسبي من رحيقِ الشاي وصلٌ

بكلِّ جوارحي ودماي يسري

إذا ليل الهموم بدا طويلاً

وطالعني بوجهٍ مكفهرّي

فليس سوى احتساء الشاي شيءٌ

يزيل الهم عني أو يسرّي

وليس كمثلِ سلسلها شرابٌ

ولا كمتاعها زاد لفكري

إلى آخر ما قال في أبياته الرقيقة.

ولعلّي لا أكثر وأُمل وأختم بقصيدة أحمد صافي النجفي في وصفِ الشاي في كتابه الأمواج، وهي طويلة مشهورة، فأنتخب منها:

لئن كان غيري بالمُدامةِ مولعاً

فقد ولعت نفسي بشايٍ مُعنبَّرِ

إذا صُبَّ في كأسِ الزُّجاج حسبتهُ

مذاب عقيقٍ صُبَّ في كأسِ جوهرِ

بهِ أحتسي شهدًا وراحاً وسُكَّرًا

وأنشق منه عبق مسكٍ معنبرِ

يغيب شعور المرء في أكؤس الطلا

ويصحو بكأسِ الشاي عقل المُفكرِ

يعيد سرور المرء من غيرِ نشوةٍ

فأحبب بهِ من منعشٍ غير مُسكرِ

خلا من صداعٍ أو نزيفٍ كأنهُ

سلافة أهل الخُلد أو ماء كوثرِ

إلى أن يقول:

فللهِ أرض الصين إذ أنبتت لنا

ألذ نباتٍ بالمسرَّة مثمرِ

لو ان ابن هاني فاز منه بجرعةٍ

لراح بأقداح ابنة الكرْم يزدري

ولو ذاقه الأعشى وحُكِّم في الطلا

وفيه، لقال الفضل للمتأخّرِ

فللفمِ أحلى مشربٍ من مذاقهِ

وللعين من مرآه أجمل منظرِ

عجبتُ له يكوي اللسان حرارةً

ويطفىء نيران الجوى المتسعّرِ

أخبرنا لين يوتانج عن توماس دي كوينسي (وهو مؤلف إنجليزي تـ١٨٥٩ أدمن منذ شبابه تعاطي الأفيون، وشغل عدة مناصب صحفية، ومن أشهر كتبه «اعترافات إنجليزي يتعاطى الأفيون» و«القتل من الفنون الجميلة!»)، أقول أخبرنا عنه قوله: ”الشاي سيبقى شراب المثقفين“، ولا يعنيني من هذا القول غير الدلالة الخفية لقيمة هذا المشروب عند أهل الفِكر المؤثرين في مجتمعاتهم، فالمثقف الإنجليزي حرَكيٌّ ضرورةً، ولا يشاكه المثقف العربي الذي إذا ألِف الدسوت والمناصب جمد وخمد وتنازل عن واجبه الأصيل تجاه نفسه وبلاده، فأنا لا أفهم لفظة المُثقف إذا لم تكن في سياق المُغيِّر أو المؤثر حامل رسالة التغيير.

وأقول قبل الختام لقد ربطَ الصينيون بين الشاي والنسك الرفيع، وهو على هذا الأساس يكون رمزًا للطهر الأرضي!

وأُغلق باب هذا المقال بقول عمر باكثير في كتابه «أكواب الشاي»: ”كان الشاي شيئاً نادرًا لا يشربه إلا العظماء“.

مصادر المقال:

[كتاب الارتسامات لشكيب أرسلان]

[كتاب كيف يحيا الإنسان للين يوتانج]

[كتاب رسالة في الشاي والقهوة والدخان للقاسمي]

[كتاب من الشاي إلى الأتاي للسبتي والخصاصي]

[كتاب الشاي الأخضر لأيمن الحسيني]

[كتاب أدبيات الشاي والقهوة والدخان للكردي]

[كتاب أكواب الشاي عمر باكثير]

[كتاب وحي بغداد لزكي مبارك]

[المجلة الجديدة/العدد٦/ ١يونيو ١٩٣٨م]

[مجلة الرِّسالة العدد ٦/١أبريل١٩٣٣]

[مجلة لغة العرب/ العدد٧/ ١يوليو ١٩٢٨]

[مجلةِ العرفان/ مايو ١٩٨٧]

[https://orwell.ru/library/articles/tea/english/e_tea]

أضف تعليق